سباق الرقائق- هيمنة تكنولوجية وأمن قومي في عالم متنافس

خلال العقدين الأخيرين، برزت القدرات التكنولوجية كأداة مبتكرة وعظيمة لتعزيز قوة النفوذ التقليدي، وأصبحت بمثابة مضاعِف لقوة الدول وتأثيرها. فبالإضافة إلى استخدام هذه القدرات في الحصول على معلومات سرية للدول، كما هو الحال في التجسس النمطي، استغلت الدول هذه القدرات في طائفة واسعة من الأغراض الأكثر خطورة، كالسطو على الملكية الفكرية، والتهديد بتعطيل المؤسسات المالية والاقتصادية، والصناعات النفطية، والمفاعلات النووية، وشبكات الطاقة، والبنية التحتية للاتصالات، والسعي للتدخل في العمليات الانتخابية، وإضعاف القدرات العسكرية وتعطيلها في أوقات الحروب، وغيرها.
باختصار شديد، تحولت الفضاءات السيبرانية إلى بيئة رئيسية جديدة، مليئة بالإمكانيات والمخاطر على حد سواء. ولهذا، تسعى الدول جاهدة للتخفيف من الآثار السلبية للتكنولوجيا المتسارعة على اقتصاداتها الرقمية والبنى التحتية الحيوية من خلال ضخ استثمارات ضخمة، ورعاية نمو قطاع الصناعة السيبرانية العالمي، ودمج القدرات المتقدمة في استراتيجياتها الاستثمارية الوطنية وعقائدها وخططها، مع تكثيف أنشطتها المتعلقة بالفضاء الإلكتروني بشكل عام.
تشهد الساحة العالمية اليوم منافسة حامية الوطيس بين الصين والولايات المتحدة في صناعة الرقائق الإلكترونية، حيث يسعى كلا الطرفين إلى تحقيق المزيد من المرونة في سلاسل الإمداد وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية. وفي المقابل، تمضي الصين قدمًا في خططها الطموحة لبناء 31 مصنعًا جديدًا للرقائق بحلول عام 2024.
أدركت الدول تمام الإدراك أن ازدهارها الاقتصادي والتجاري، إضافة إلى أمنها القومي وتأثيرها الجغرافي الاستراتيجي، يعتمد بشكل كبير على إدارة المخاطر الإلكترونية، وامتلاك القدرات التكنولوجية المتطورة، والتحكم في التقنيات التي تدعم مستقبل الفضاء السيبراني ماديًا، مثل إنتاج الرقائق أو الشرائح الدقيقة (أشباه الموصلات)، وتجميع الكمبيوتر، والإنترنت عبر الهاتف المحمول (مثل 5G)، والبنى السحابية، والكابلات، وأجهزة التوجيه، وتقنيات الذكاء الاصطناعي. فالدول في القرن الحادي والعشرين تدرك تمامًا أنها لا يمكن أن تكون قوى ذات مكانة مرموقة ونفوذ مؤثر إلا إذا كانت قوى رقمية متقدمة.
بالعودة إلى موضوع إنتاج الرقائق الإلكترونية، أو ما يعرف بأشباه الموصلات، التي أصبحت عنوانًا للتنافس الدولي المحتدم ومفتاحًا لمستقبل البشرية، سواء بالإيجاب من خلال التحول التكنولوجي أو بالسلب من خلال الاحتكار أو التعرض لأزمات التوقف عن الإنتاج، نجد أن هذه الشرائح تشكل العقل المفكر لكافة الأجهزة والآلات التكنولوجية الحديثة، والعمود الفقري للأجهزة الإلكترونية. فبدونها، لم نكن لنشهد في يوم من الأيام أي حاسوب أو هاتف محمول، وهي تدخل اليوم في صناعة كل شيء تقريبًا، وفي جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وحتى الأسلحة المتطورة والصواريخ العابرة للقارات وطائرات "إف 35". وقد صرح مسؤولون أمريكيون بأن موضوع الرقائق الإلكترونية بالنسبة لواشنطن يمثل "مسألة أمن قومي"، وهو ما دفع مجلس الشيوخ الأمريكي إلى التصويت بأغلبية كبيرة (64 صوتًا) على الموافقة على حزمة بقيمة 280 مليار دولار بهدف تحفيز تصنيع الشرائح الإلكترونية الأمريكية.
تشهد الساحة العالمية اليوم سباقًا حثيثًا بين الصين والولايات المتحدة في مجال صناعة هذه الشرائح، حيث يسعى كلا الطرفين إلى تحقيق قدر أكبر من المرونة في سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية. وفي الوقت نفسه، تواصل الصين المضي قدمًا في خططها الطموحة لبناء 31 مصنعًا جديدًا للرقائق بحلول عام 2024. وليس من الصعب فهم أبعاد الأزمة الأمريكية الصينية الأخيرة بسبب هذه الرقائق، إذا علمنا أن أكبر لاعب في هذه الصناعة هي شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات.
جزيرة تايوان لا تمتلك ثروات بترولية أو موارد طبيعية وفيرة، إلا أنها تشهد صراعًا دائمًا تشارك فيه قوى عظمى مثل الصين، التي تصر على أن الجزيرة جزء لا يتجزأ من أراضيها، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية تساند استقلالها عن بكين وتبذل قصارى جهدها لتحقيق ذلك. والسبب الرئيسي وراء هذا الصراع يكمن في حقيقة امتلاك تايوان لأكبر وأحدث شركة في العالم في هذا المجال، وهي شركة "تي إس إم سي" (TSMC)، التي تستحوذ على الحصة الأكبر من إنتاج الرقائق الإلكترونية المتطورة في العالم.
تشير المعطيات إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتضن 7 من بين أكبر 10 شركات لصناعة الرقائق الإلكترونية في العالم، ومن بين هذه الشركات أسماء لامعة مثل إنتل وكوالكوم، اللتين تحققان إيرادات بمليارات الدولارات سنويًا. وتنتج أمريكا أنواعًا مختلفة من الرقائق، ولكن الأجيال الأكثر تقدمًا، كتلك التي تعتمد عليها أجهزة آيفون، لا تصنع إلا في تايوان، التي تفوقت على العالم في هذا المجال، خاصة مع إطلاقها الرقائق بتقنية 3 نانومتر.
بالعودة إلى نقطة البداية، فإن المنافسة، أو الحرب الباردة الجديدة، بين واشنطن وبكين تتركز بشكل متزايد على تطوير صناعة واحدة فقط في مكان واحد، ألا وهي صناعة الرقائق الإلكترونية في تايوان. ويتعين على أي دولة تطمح إلى الهيمنة على المستقبل الرقمي أن تشتري أو تصنع هذه الرقائق فائقة السرعة وفائقة النحافة. فحرب الرقائق هذه هي الحرب الجديدة التي تخوضها الشركات متعددة الجنسيات في العالم. إنها حرب بدون أسلحة أو جنود أو إراقة دماء، ولكن إذا لزم الأمر، فستصبح جميع الوسائل متاحة لتحقيق الهدف، وهو حماية الأمن القومي.
ويبقى السؤال المطروح: إلى أي مدى سيظل العالم أسيرًا للابتزاز الأمريكي الصيني في موضوع الرقائق الإلكترونية وفرض الهيمنة على مصادرها؟ وتبقى القدرة على الهيمنة والنجاح اليوم للأمم والدول التي تسيطر على هذا السوق وتتفوق في إنتاج هذه الرقائق المتناهية الصغر باستخدام تقنية "النانو"، حيث المليمتر الواحد يساوي مليون نانومتر، والسنتيمتر يساوي 10 ملايين نانومتر.
والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه هنا: أين موقع العرب مما يجري في هذا العالم المتسارع؟